حوار صحفي أجرته الأنا معي
هذا حوار غير مسبوق، حيث أنني كصحفي أنفصلت عني ككاتب والتقيتني بعد جهد جهيد لإجراء هذا الحوار، فلا الصحفي كان يملك وقت، ولا الكاتب كان يترك القلم، ولكن تفضل الكاتب و وضع القلم جانبا لبعض الوقت، و توقف الصحفي عن الجري خلف المعلومة، وكان هذا الحوار على مائدتي وبحديقة منزلي، أخذ الصحفي رشفة من قهوته التي هي قهوتي وقال: من أنت؟ هل انت أنا أم صاحب القلم؟
جاريته وأخذت أيضا رشفة من قهوتي التي هي قهوته وقلت:
أنا أنت حينما تتوقف عن الجري وجمع المعلومات، وتقوم بتخزينها، أنا امين مخزنك، و صاحب مكتبتك، فأنت تجمع المعلومة الآنية وتأتي كل يوم بكم هائل من المعلومات ومن مصادر متعددة، وتضعها أمامي، وتذهب، فأقوم أنا بتمييز غثها من ثمينها، وصدقها من كذبها، وعقلانيتها من لا عقلانيتها، وبعد ذلك أخذ في ترتيبها وتصنيفها، وتبسمت في وجهه الذي هو وجهي حتى لا يغضب، فيرتفع سكري أو ضغطي وقلت: و نظرا لإستعجالك في الحصول على المعلومات يكون مصير الكثير منها سلة المهملات، لأنها معلومات قد لا تفيد، وبعد الفرز أقوم بتأمل ما اعتقدت أنه مفيد وغربلته مرة أخرى في غربال فتحاته، التاريخ والحضارة والدين والشعر والنثر والإنسانية، وتعلم أن هذا الغربال لا يحابي ولا يجامل.
أمتعض قليلا من كلامي ولكنني سايرتني وقال:
ومن أين تحصلت على هذا الغربال العجيب؟.
أعتدلت في جلستي وقلت مبتسما: سؤال مهم، هذا الغربال بوشر في صنعه يوم نزل أدم عليه السلام على الأرض، وهو لعلمك الذي هو لعلمي مازال لم يكتمل.
قال مقاطعا: هل هي فلسفة فكيف تستعمل شيئا لم يكتمل صنعه بعد، وتعتمد عليه، وترمي ببعض إن لم يكن أغلب ما تحصلت عليه من معلومات في سلة المهملات نتيجة لإستعمالك لهذا الغربال الغير مكتمل الصنع؟.
قلت لي مجيبا عن سؤالي:
تعالى معي بشرط أن لا تركض خلف المعلومة، وقد أسألك ولا أريدك ان تجيب، فقط ليتنا نكن مستمعين، ولنا أذان واعية، ماذا ترى في نزول أدم عليه السلام من الجنة الى الأرض، وفي غواية إبليس له؟، وهل كان ذلك الهبوط والعداوة، بدون حكمة؟، و تعلم أن في زمن نوح عليه السلام حصل طوفان قضى على أغلب الأحياء إن لم يكن كلهم ولم ينجى إلا أصحاب السفينة، فهل تعلم كم من البشر الذين كانوا ما بين أدم و نوح عليهما السلام؟، و توالت الرسائل السماوية للتنبيه والدعوة للتدبر، وكم من حضارات كانت قائمة وأندثرت، وكم من أقوام كانوا مثلنا بعضهم يجري وبعضهم يغربل ولكنهم هلكوا، وكان لمهلكهم موعدا..
وكمثال كانت هناك ذات عماد، لم يخلق مثلها، و كانت هناك نار لا تحرق، وأمطار لا تغيث، ورياح لم ترسل رحمة، وكان في كل العصور هناك لاهثا ومتأمل.
و نهضت حضارات على انقاض أخرى، وتاهت الأفكار يمنة ويسرى، ولعلك قرأت الأوديسا والإلياذة، هي كلها اخبار، لكن الغربال يسقطها للا منطقيتها، فالأولمب لا يتعدى كونه جبل من الرواسي.
و لا أريد أن أغوص بك كثيرا في مجاهل حضارات الهند وفارس، و ترهيب وترغيب بيدبا او إبن المقفع، ولن أحدثك عما قال زرادشت، ولا عن تحنيط الفراعنة وألغاز حضارتهم القائمة الى يومنا هذا..
بقيت صامتا مشدوها، ولكن رغبتي في الحديث غلبت فقلت:
رويدك فقد أنحرفت بنا عن مسارنا الذي بدأناه فأنا سألتك عن غربالك الغريب، فإذا بك تقفز بي من آلهة اليونان الى مجاهل الهند والسند ثم تطير بي الى فارس وبلاد العرب، لتسقيني بعدها شربة من النيل، ما هذا الحديث الذي يشبه الطلاسم، ليتك تعود الى الغربال؟
قلت لي: أعود الى الغربال أنا الذي هو أنت لم أغادره لأعود إليه، هل تراني خرجت من التاريخ والدين والحضارة والشعر والنثر والإنسانية؟
قال مخاطبا نفسه: لا لم أخرج فما أقوله وأسمعه تاريخ وحضارة وسجلات و تسجيلات.
قاطعتني ضاحكا: وقلت هي نفسها تسجيلاتنا التي ستصبح تاريخ وحضارة.
وأضفت: هل قرأت لغيري، فمنذ حي بن يقضان توالت الروايات والقصص، يطول بعضها ويقصر، من تولستوي ودوستوفسكي، وحكايتهم عن الحرب والسلام والجريمة والعقاب، والحاج مراد، وانا كارنينا، الى أم ماكسيم غوركي، ومدينتي ديكنز، وبؤساء فيكتور هوجو، وأحدبه، و ما تلاهما من قعقعة سلاح همنغواي وسمكته، وذهابه الى قمة إفريقيا في كليمنجارو، وحديث أريك سيجال عن قصة حبه، وماركيز، ولا تنسى أجاثا كريستي وحكاياتها، و ساطير بك لنحط في بلاد تعرفها وتعرف أهلها. حيث الزير المهلهل والملك الضليل، وابن هند الذي طار رأسه من أجل صحن، وداحس والغبراء، التي نعيش شبيهتها اليوم، فالحلول لا تأتي إلا بعد ما يتبزل مابين القبيلة بالدم، وأيام العرب التي لاتحصى من تحلاق اللمم الى أيام بعاث، وبكاء الخنساء، و لا تنسى عنترة ونوق النعمان صاحب الغرينين، و ذي يزن وذي قار، وأبورغال دليل ابرهة، و حرب الفجار وصلح الفضول و يوم حراء الذي سطع وسط ظلام دامس فأنار دروب وعقول، و بدر وأحد وبقية المغازي، وما حدث بالسقيفة، والحقد الأعمى الذي قتل عمر الفاروق، وفتنة ابن السوداء، و القادسية والنهروان واليرموك وعين جالوت وحطين، و مهاترات جرير والفرزدق و صعود وهبوط، و المتنبي وسيف الدولة والأخشيد..
ولا ننسى الحجاج و من يراه مؤمنا ومن يكفره، و محمد الفاتح الذي خلف من بعده خلف تحولوا الى عثمانيين لغتهم الخازوق وسلاحهم التجهيل، و إنقلاب مركب الحضارة رأسا على عقب، بحيث أعتلى أهل اوروبا صهوة الجواد وانطلقوا ينشرون عهرهم وحقدهم على الشعوب، و قد نذكر التتار وجنكيزهم و هولاكوهم وما فعلوه، هذه كلها فتحات في الغربال كما ترى.
طال الصمت بيننا هذه المرة، فأنا أستعجبت من حديثي، ولكنني سألتني : هل تكاملت فتحات غربالك العجيب هذا؟.
قهقهت ضاحكا وقلت: يالك من صحفي ديجيتالي، غربالي هذا كما قلت لك يتطور يوما بعد يوم، ولن تكتمل صناعته مادامت الارض هي الأرض والسماء هي السماء..
هكذا هو يبنى لبنة لبنة، أنظر وتمعن في فتحات الغربال، آلا ترى فيه فتحات لم نذكرها؟.
قرب الغربال من وجهي ليمعن النظر وقال: بالفعل هاهم أصحاب المذاهب والليث بن سعد، وهاهم جماعة المفسرين وكتاب التاريخ، هذه فتحة لأبن كثير، وأخرى لإبن القيم، وابن تيمية، و العسقلاني، والجنيد وحتى الحلاج.
فقلت: لماذا حتى، وهل تسخر منها لقد قتلت سيبويه، وحيرت ابو الاسود، ودخلت مع ابن عربي في سجال، ولم يخل قاموس لغوي من حتى ولن يخلو.
وهل رائت محمد عبده، والأفغاني والالباني؟..ثم انظر جيدا فهاهو حافظ إبراهيم و شوقي ورامي وزكي مبارك، و زكي نجيب، وذاك العقاد وطه والحكيم، والمنفلوطي بعمامته و تاجه وماجدولينه وقصته في مدغشقر، وهذا نجيب محفوظ والغيطاني، وتلك مي وغادة والعجيلي، وفي ذاك الركن جبران ونعيمة والعجيلي، وهاهنا أنت الذي هو انا وانا الذي هو أنت.
صاح فرحا وكأنه تحصل على سبق صحفي وقال: وما هذه الفتحات المتناثرة والغير متجانسة؟.
قلت: تلك الفضاء الالكتروني من الفيس الى الإنستا الى التويتر، مرورا بالواتس والماسنجر.
أتسعت حدقتا عينيه وحرك راسه يمنة ويسرى وقال:
لقد أصابني دوار، فهل لي بجرعة ماء وحبة صداع؟.
فقلت له ولي:
هي أيضا في الغربال لها فتحة.
تململ في مجلسه وقال:
من أنت بالله عليك، فقد ادخلتني في متاهة؟.
أجبته:
أنا أنت وأنت أنا، ونحن كل هذه الفتحات التي تراها بالغربال، وكل يوم نزداد عددا، فلا تبتئس من كثرت عدد الفتحات لأنها كلها دروب قد تنجيك من عثرات.
نهض وهو يقول:
لن أتعب نفسي بعد اليوم في الجري وراء أي معلومة وسأتفحص وأقلب وأعمل الفكر قبل ان آتيك بمعلومات تقذف بأكثرها في سلة القمامة أو تغربلها بغربالك العجيب.
قلت له وهو يغادر:
هاقد أصبحت صاحب غربال، وأردفت قائلا : لتكن صحفي وصاحب قلم حتى لا تضطر لمثل هذا الحوار.
وغادرني مسرعا وكأنه لم يحاورني، فقلت له: على رسلك ايها الصحفي لكنه كعادته كان مسرعا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق