الأربعاء، 2 أغسطس 2023

من كتابي أشهر النساء في التاريخ القديم
حتشبسوت
ملكة بلا منازع
إنها كبرى بنات الملك العظيم تحتمس الأول مؤسس الأسرة الثامنة عشرة .ولم يكن للملك ولد من زوجة ملكية فكانت هي وريثة العرش المؤهلة لتستلمه كما تقتضي شريعة ملوك الفراعنة ،وهذا ماجعل والدها يقلق كثيراً عليها فكان يتابعها بنظراته الحائرة وكانت تدرك سبب هذه النظرة فتحاول أن تظهر أمامه بمظهر الفتى فتلبس لباس الفتيان وتأمر وتنهي في القصر كما يفعل أبناء الملوك ولكن كل ذلك لم يخف حقيقتها الأنثوية لأن جمالها الباهر كان يفضحها دائماً وكان حزن أبيها مزدوجاً فقد فقدَ أمها الملكة أحموس و هي التي كانت تضفي عليه السمة الشرعية في الحكم ،وسينتهي الحكم الآن إلى ابنته هذه الطفلة التي لايقوى كاهلها على تحمل المسؤولية .ولكن ماذا يفعل والتقاليد هي التي تغرض ذلك، ولايستطيع لها تغيراً أوتبديلاً.
أطلت الفتاة إلى والدها ،فنهض من فوق العرش المصنوع من البازلت الأسود،ودلت حركته على أنه مقدم على أمرخطير .
لقد قرر أن يتنازل عن العرش راضخاً للقانون الكهنوتي المقدس وكان في حقيقة نفسه يرغب في الاستراحة من هذه المهام التي حملها زمناً طويلاً ،فقد تعب من كثرة الغزوات ،وضاق بكثرة المؤامرات التي تحاك حوله.
ونظر الملك إلى ابنته في إشفاق ،ثم أطلق زفرة شديدة دلالة على الضيق الذي يعانيه من مصير ابنته ،إنها ستصبح ألعوبة بيد الكهنة لأنها صغيرة على أمور الحكم ولاتعرف عن دهاليزه شيئاً ،ولكن ماذا تفعل ، والقدر يتصرف بهم جميعاً كما يشاء .
وقف الملك ويده في يد ابنته ،ثم مرر يده على رأس حتشبسوت وارتفع صوته قوياً يملأ أرجاء القاعة الملكية.
هذه الفتاة كنوميت آمون حتشبسوت ،إنني أرفعها إلى سدتي فهي ستأخذ مكانها فوق عرشي ،وتوجه كلماتها إلى جميع رعاياها إنها ستتولى الحكم عليكم بغير منازع ،فاستمعوا إلى أقوالها واتحدوا في تنفيذ أوامرها ..واعلموا أن من أطاعها نجا ،ومن عصاها كتب على نفسه الهلاك .
ولم يكد ينهي كلامه حتى أفسح مكاناً لابنته ،فجلست بجانبه على العرش ،وأخذ الاثنان يتلقيان الولاء معاً من رجال البلاط ، فتقدم كبير الكهنة أولاً وكان كبير السن مشهود له بالحكمة. انحنى أمام الملكة الصغيرة تعبيراً عن الولاء.
ثم توالى تقدم الكهنة ،والفرعون تزداد نفسه قلقاً فهو يعرف هذه الوجوه الماكرة التي تتخفى الآن أمام مراسم الطاعة ولكنها هي التي تجيد حبك المؤامرات في هذه المملكة الكبيرة.
ثم تقدم بعد ذلك فتى حسن الطلعة فتي الجسم،إنه الأمير سينموت مدير بيت الإله آمون وعميد الطبقة الأرستقراطية ، وأبرع مهندس في تصميم المعابد المصرية وقدم فروض الطاعة والولاء لمليكته الحسناء الصغيرة.
وبعد أن انتهى جميع أركان المملكة من تقديم فروض الطاعة بدء الاحتفال بتتويج الملكة حتشبسوت ،وكان يوماً شديداً على هذه الصبية الصغيرة ،فبعد أن حملت على رأسها التاجين الأبيض والأحمر.وتسلمت شارتي الحكم ،واستوت على العرش الذي ازدانت قوائمه بزهور مملكتي الشمال والجنوب وأخذت تتلقى الولاء بلا انقطاع من رجال الحاشية وأفراد الشعب ،ثم قصدت موكباً عسكرياً تقليدياً قصد به إظهار مقدرة البلاد على صد العدوان الخارجي ،ثم اتجهت إلى المعبد الكبير لإقامة صلاة الشكر وتقديم القرابين للإله آمون.
وبعد أدائها هذه الطقوس كان لابد لها أن تستريح بعد أن تعبت كثيراً ،فاتجهت إلى مخدعها لتنال قسطاً من الراحة ،إلا أن الكاهن الأكبر تابعها إلى قصرها ليقدم لها النصائح، وكان أهم ماقاله لها: هو أنها يجب أن تتزوج لأن هذا الأمر من صميم الأصول المتبعة بعد أن أصبحت ملكة فلا يجوز للملكة أن تبقى بدون زواج وكان مفهوماً أن من يريد أن يتزوج الملكة لابد أن تجري في عروقه دماء ملكية .ولم يكن مثل هذا الرجل موجوداً سوى أخيها (تحتمس الثاني).
فكان لابد لها أن تتزوج بأخيها (تحتمس الثاني)وهذه سنة كانت متعبة في العصور القديمة)مع أنها لم تكن راغبة في الزواج خاصة وأن أخاها لم يكن يملك مواصفات تجعله أهلاً لها فهو ضعيف البنية مغرقاً في الترف والتأنق تقترب صفاته من الأنوثة أكثر من الذكورة ولكن لابد من تنفيذ قانون المملكة .هكذا أخبرها الكاهن الأكبر وأضاف لها وهو يعرف طموحها ورغبتها في الوصول إلى القوة والمجد: تزوجي من تحتمس ستكوني ملكة وملكاً أيضاً.
وفعلا ًتم الزواج بسرعة ثم أقيمت الاحتفالات ابتهاجاً به في جميع أنحاء البلاد وكان يوماً مشهوداً عاشت مصر فيه أجمل أيامها .وبعد أن انتهت من مراسم الزواج شرعت في التخطيط لبناء المعابد والقصور وكل مايحقق لها المجد والخلود. فأمرت الأمير سينموت كبير مهندسي المملكة أن يبدأ في إنشاء معبد جنائزي كبير يقوم على سفح جبل في طيبة غرباً ليكون مدخلاً إلى المقبرة السرية الحصينة التي تحفر في جدار الجبل.
وفور تلقي المهندس سينموت الأوامر باشر بالتنفيذ مدفوعاً برغبة كبيرة في أن يرضي الملكة العظيمة التي استحوذت على كل تفكيره.
وخطط لما سيكتبه على أحد جدران المعبد عن ملكته وهو الآتي: (إنّ جلالتها تنمو بشكل أجمل من الناس جميعاً ..إنها أشبه بإله شكلها شكل إله ،وفعلها فعل إله ،وسناؤها سناء إله ،إن جلالتها تشبه العذراء الجميلة المزدهرة).
وكانت حتشبسوت تزداد روعة وجمالاً كل يوم ،وكانت بالإضافة إلى ذلك تمسك بمقاليد الحكم بكل حزم وصلابة ،أما تحتمس الثاني أخوها وزوجها فلم يكن أمام الشعب إلا ملكاً رمزاً أكثر من ذلك.
وتمر السنون وحتشبسوت تحكم البلاد وتنشر في ربوعها الخير والسلام ،وكان إلى جانبها رجال مخلصون ومستشارون ناصحون يصرفون الأمور بعد عرضها عليها وتبادل المشورة.
ولكن بالرغم من كل مافعلته الملكة كان لابد من وقوع الحرب لأن بعض القبائل في بلاد كوش بالنوبة الجنوبية أعلنوا العصيان على المملكة فأرسل الملك حملة لإخماد الثورة والقضاء عليها .وعاد الجيش بعد أن قضى على الثورة بأسرى كثيرين،واستعاد تحتمس الثاني هيبته أمام الشعب بعد تحقيق النصر،وأتبع هذه الحملة بحملة أخرى على بعض القبائل الليبية ،فكبر في نظر شعبه وراح يعظمه وتصوروا أنه بدأ يسير على نهج والده المحارب العظيم .
ولكن ذلك لم يدم طويلاً ،إذ لم يمض وقت طويل حتى عاد تحتمس الثاني إلى عهده بالانغماس في اللذات وترك شؤون الدولة لزوجته وعادت حتشبسوت تسيطر على الامور من جديد.
واستطاعت مصر أن تغتني وتزدهر تحت صولجان المرأة الفرعون حتشبسوت وأخذت الحقول تعطي محصولات وفيرة بفضل وفاء النيل وأقامت المباني والمنشآت في مختلف أنحاء البلاد .
أما سينموت فقد كان مايزال يواصل العمل لإنهاء المعبد الجنائزي لملكته حتشبسوت ،وكان ينفذ بكل دقة جميع تعليماتها الملكية، ويسجل بالنقوش والرسوم كل ماكانت تستهدفه من تأكيد حقها في العرش.
ويخبرها المهندس الأمير سينموت بأن المعبد بحاجة إلى الأخشاب من بلاد بونت ..أرض البخور والأخشاب فتذهب البعثة سريعاً وتعود محملة بكميات وفيرة من الأخشاب المقطوعة من أشجار الغابات ومن أشجار الأبنوس الأسود والأخضر ،وتحضر البعثة معها جلود الفهود والنمور والقرود العجيبة ،فيسجل سينموت كل مايراه بل يسجل الرحلة نفسها على جدران المعبد ليخلد ذكر عهد الملكة حتشبسوت.
وجاء اليوم الذي ستحتفل فيه بالانتهاء من المعبد الكبير ،فتحضر الملكة إلى المعبد لمشاهدة ماصنعه هذا المهندس الفنان من نقوش ورسوم وكتابات على جدران المعبد الكبير الذي أصبح أعجوبة الدنيا في زمانه.
وأخذت الملكة بعد ذلك تنتقل في أرجاء المعبد الكبير متأملة رسومه وزخارفه ،وكان سينموت قد صور مشاهد تحكي حياة الملكة منذ ولادتها حتى تتويجها.
وأحست الملكة وهي تتأمل الرسوم بسعادة غامرة، فهي ستؤكد أن هذه الملكة إنما جاءت من سلالة ملكية إلهية.
وعندما انتهت من المشاهدة وهمت بركوب السفينة رأت أن تحيي الرجل الذي استطاع أن يحقق أمنيتها فقالت له أمام الجميع: (لقد ثبت أنك خادم نافع ياسينموت ،فقد استمعت إلى تعليماتي وقمت بها على خير وجه،وهو أمر يجعلني راضية عنك فلتكن صديقاً للملك من الآن ،وأصبح من حقك أن تأكل خبز الفرعون سيدك في معبد آمون رع).
ثم تناولت من أيد أحد الخدم ريشة نعامة ذات قبضة ذهبية وصديرية موشاة بالذهب وناولتها لسينموت فأسرع إلى تناولها وهو راكع والخشوع يلفه وقلبه يقفز فرحاً فقد نال رضا الملكة.
ولكن غياب الملك عن أعين الناس جعلهم يتساءلون عن وجود فرعون قوي يعيد لهم مجد الحروب والانتصارات.
وفي هذه الأثناء تتعرض حتشبسوت لهزيمتين عنيفتين جعلتا مستقبلها الشرعي في خطر كان أولها موت الكاهن الأكبر الذي كان من أشد أنصارها ،ثم جاء موت زوجها تحتمس الثاني ضربة صاعقة لها وأصبحت مأساتها تشبه مأساة أبيها تحتمس الأول عندما لم يرزق بطفل ملكي واضطر إلى التنازل لابنته.
فها هي تعيش نفس الحدث فهي لم ترزق من تحتمس الثاني إلا ببنتين بينما لم تعقب منه وارثاً للعرش.
فوجدت نفسها أماً لطفلة هي (نفرورع) الوارثة للعرش من خلال دمها الملكي وهي رئيسة للبيت المالك لاينازعها منازع ،وكانت لاتزال في مقتبل العمر وريعان الشباب ،وقد وقع على عاتقها مشكلة وراثة الملك في نفس الصورة التي وجدت فيها البلاد بعد وفاة تحتمس الأول ويبدو أن تحتمس الثاني كان قد أنجب ولداً من إحدى محظياته ،وقد انتظم هذا الولد في السلك الكهنوتي منذ طفولته ،وقد سماه أيضاً تحتمس وكان في التاسعة من عمره عندما مات والده.
وكان هذا الصبي الصغير يكره حتشبسوت لأنها جعلت أباه الملك نكرة لا قيمة له وصورة ملكية لا أكثر.
وقد انتبهت الملكة إلى ذلك وعرفت بأمره وفكرت في أمره ولم تجد لها مخرجاً إلا أن تزوجه ابنتها وتجعلها تحت وصايتها،وبذلك تأمن شره بل تبعده كما أبعدت أباه من قبل، وبعد أن أقامت مراسم الاحتفال بزواج الصبي (تحتمس الثالث) بابنتها نفرورع وضعت الصبي شريكاً لها في الحكم وكان كل منهما يفكر كيف يستطيع القضاء على خصمه.
إلا أن حتشبسوت استطاعت أن تسيطر على الموقف وأن تواصل فرض نفسها على العرش حتى أن المهندس دانيتي كتب على جدران مقبرة كان تحتمس الثالث حاكماً جالساً على عرش أبيه الذي أعطاه الحياة أما الزوجة المقدسة حتشبسوت فكانت تحكم البلاد بإرادتها فطأطأت لها مصر مطيعة لأوامرها ،ولاغرابة في ذلك فجلالتها من النسل الخارج من صلب الآلهة.
وهكذا ظلت حتشبسوت الملكة الحقيقية للبلاد ،وكان تحتمس شريكها على العرش يقوم بدور الملك الصوري ،وبقي الأمر على حاله وأعلنت خلالها نفسها ملكة شرعية على البلاد طوال ثلاثة عشر عاماً ،انزوى تحتمس الثالث فلم يسمع عنه أحد شيئاً وكأن التاريخ نسيه في هذه السنوات.
ولكن تحتمس الثالث لم يكن لقمة سائغة في فم حتشبسوت فقد كان يخطط للقضاء عليها بأسلوب ماكر ومخادع أظهر فيه المسكنة والموالاة ولكنه كان يخفي تخطيطه فقد بدأ يطوقها برجاله ودون أن تدري حتى أتت اللحظة المناسبة.
فقد عادت ذات مساء بعد أن حضرت وليمة أقيمت لتكريم كبار المحاربين ،فلم تكد تستقر حتى شعرت بانحراف شديد أعقبه قيء مستمر ، وأدركت حتشبسوت أنها قد سُممت وأن السم قد سرى في جسدها ،وان الموت يسعى إليها بخطى سريعة بفعل السم الذي دس لها في الطعام وأخذت المسكينة تصرخ طالبة المساعدة غير أن صيحاتها ذهبت هباء، فقد صدرت الأوامر من تحتمس الثالث بعدم الدخول عليها،فلم يستجب أحد لصرخاتها التي أخذت تضعف شيئاً فشيئاً.
وعندما دخلت الجواري إلى مخدعها في الصباح بعد أن إذن لهن بالدخول وجدن الملكة العظيمة جثة هامدة انطرحت على الرخام الأسود البارد وقد تفتحت عيناها الواسعتين تنبئ بميتة مروعة.
وعمد تحتمس الثالث لكي يتحاشى غضب الشعب بسبب عمله الإجرامي إلى إعداد مشهد جليل لتشييع جنازة حتشبسوت ،وحملت المومياء في وقار إلى قبر سري لم يعرفه أحد.
وقد نفث تحتمس عن حقده بعد موت حتشبسوت فأمر بمحو كل أثر يدل عليها أو يذكرها فمحا اسمها من فوق التماثيل وواجهات المباني الكبيرة ومن السجلات والمحفوظات ولم يكتف بذلك بل أمر بعدم إقامة الصلوات على روحها وكان يريد بذلك أن يمحو ذكراها من الوجود كما في حياتها.
ولكن يد الخلود امتدت لتبقي معبدها بعيداً عن عمليات التخريب التي قام بها هذا الحاقد.
لقد بقي المعبد قائماً في مكانه بعد انقضاء جبروت تحتمس ليحكي لنا قصة هذه الملكة العظيمة التي استطاعت أن تغرس في جسد الزمان صورة ناصعة للمرأة المصرية التي أمضت حياتها في سبيل مجد أمتها ووطنها.

د عبد الحميد ديوان

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

سـماء الألـق في مرتقى العشق نبضي جاوز الألقٓ و جاز حد   حدود   العشق  منطلقا أنا الـسماء شعوري بالهوى   رفعت لـمن   أحب   غرام   نبضه   سمقا...